عبق نيوز| فرنسا / باريس| كتب جمعة بوكليب وهو كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن. . مقالاً عنونه بـ “تكهنات وتحليلات في فرنسا ”، ونشرته صحيفة الشرق الأوسط الصادرة بتاريخ الأحد – 09 رَجب 1445 هـ – 21 يناير 2024 م، جاء فيه:
ماذا بمقدور رئيس وزراء شاب فعله لتغيير حظوظ رئيسه وحزبه الحاكم انتخابياً؟ الأمر يختلف من بلد إلى آخر. ويتوقف فعلياً على طبيعة النظام السياسي. في النظام السياسي البريطاني، يكون بمستطاع رئيس الحكومة فعل الكثير، خاصة إذا كان محظوظاً، وحظي بأغلبية برلمانية، حيث لا رئيس فوقه يصدر إليه تعليمات وأوامر. أما في فرنسا فالأمر مختلف، لأن النظام السياسي الفرنسي رئاسي الطابع.
في النظام الرئاسي الفرنسي، لا مكان لرئيس الحكومة في تصميم السياسات، بل تقتصر مهامه على تنفيذ تعليمات الرئيس، وتنفيذ سياساته فقط. الرئيس موكل بتصميم السياسات والبرامج، ووضع خريطة الطريق، ويختار من بين حلفائه أو وزرائه من يراه الأجدر بتنفيذها.
مشكلة الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، في فترته الرئاسية الثانية، أنّه وقع بين فكي كماشة. فهو من ناحية، رغم فوزه في الانتخابات الرئاسية خسر أغلبيته البرلمانية في الانتخابات التشريعية الماضية. ومن ناحية أخرى، فهو ملزم بتنفيذ برنامجه الإصلاحي، الذي وعد به ناخبيه، وسط معارضة برلمانية يمينية شديدة، بقيادة مارين لوبان وحزبها، ومن معهم من حلفاء. وترافق كل ذلك مع انخفاض شعبيته، وازدياد النقمة الشعبية ضد برامجه الإصلاحية، وازدياد الجريمة، والفشل في وقف تدفق المهاجرين.
استبيانات الرأي العام تشير إلى أن اليمين المتشدد بقيادة لوبان سوف يحظى بأغلبية المقاعد في انتخابات البرلمان الأوروبي، المقررة في فصل الصيف المقبل. أضف إلى ذلك، خوف الرئيس ماكرون من تمكن لوبان من الفوز في انتخابات الرئاسة المقبلة في عام 2027. الدستور الفرنسي يحظر على الرئيس ماكرون الترشح لفترة رئاسية ثالثة، لكن الرئيس ماكرون على استعداد لفعل أي شيء مقابل ألا يرى لوبان تحتل مكانه في قصر الإليزيه.
ولذلك السبب، وغيره، اختار المراهنة بتنحية رئيسة الحكومة إليزابيث بورن، وتعيين وزير التعليم غابرييل أتال، البالغ من العمر 34 عاماً، ليس فقط لقيادة الحكومة الفرنسية وتنفيذ برنامج الرئيس الإصلاحي، بل باحتمال استعادة ثقة الناخبين بالحزب وتفادي هزيمة انتخابية قاسية في الصيف المقبل، وكذلك تأهيله ليكون مرشحاً لحزب الرئيس في الانتخابات الرئاسية المقبلة، على أمل أن يتمكن من إلحاق الهزيمة بلوبان.
رئيس الحكومة الفرنسية الجديد، وفق التقارير الإعلامية، من أب تونسي يهودي الديانة، ومن أم روسية، عملا في مجال الإنتاج السينمائي. وعلى المستوى التعليمي، تخرّج في الكليات الجامعية نفسها التي درس بها الرئيس ماكرون… وهو رغم صغره في السن، وقلة خبراته وتجاربه، يتسم بذكاء ملحوظ، وخطيب مفوّه، ويحظى بشعبية كبيرة. تقول التقارير الإعلامية إن شعبيته تفوق شعبية الرئيس ماكرون (40 في المائة مقابل 27 في المائة) وانتُخب نائباً برلمانياً عن حزب ماكرون. كما يحظى برضا أحزاب اليمين، من خلال الإصلاحات التي أحدثها في مجال التعليم، وفي مقدمتها منع ارتداء العباءة على الطالبات المسلمات، وإعادة الالتزام بارتداء الزي المدرسي الموحد في كل المدارس. السؤال: هل يستطيع الشاب أتال تغيير حظوظ الرئيس ماكرون والحزب بتنفيذ وتطبيق برنامج إصلاحي، لم يشارك في تصميمه أو وضعه، وسط أجواء سياسية غير مريحة، واقتصاد يعاني من صعوبات، ومن دون أغلبية برلمانية، ووسط حالة غليان شعبي ناجم عن غلاء المعيشة، وازدياد الجريمة، وازدياد مساحات العنصرية انتشاراً، بسبب الفشل في وقف تدفق المهاجرين غير القانونيين، وكل ذلك وسط أجواء سياسية دولية منذرة بالخطورة، رافقها ضعف يهدد وجود النفوذ الفرنسي في أفريقيا؟
التقارير الإعلامية الغربية، التي اطلعت عليها، تشكك في ذلك، وترى أن الرئيس ماكرون انحاز إلى كبر شعبية رئيس الحكومة الشاب وحيويته، على حساب خبرة وزراء آخرين، يكبرونه عُمراً، ويزيدون عليه خبرة وتجربة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يكون من المفيد لو رجعنا بالذاكرة إلى الوراء، وتحديداً خلال الحملة الانتخابية الرئاسية التي جاءت بالشاب إيمانويل ماكرون ليكون سيد قصر الإليزيه، وبرسالة واضحة تتمثل في تحديث فرنسا. والذين ما زالوا يتذكرون منكم، ربما يتذكرون ما قيل ونُشر حوله من تكهنات المعلقين، وأكثرها كان حول صغر سنّه، وقلة تجربته وخبرته. لكن المرشح ماكرون، الرقم المجهول آنذاك، خرج من جبّة الحزب الاشتراكي، وأسس حزبه، وانتُخبَ رئيساً، وفاز حزبه بأغلبية المقاعد في البرلمان. واستطاع، خلال فترة حكمه الأولى، تنفيذ الكثير من الإصلاحات، خاصة في المجال الاقتصادي. الفرق بين الحالتين، هو أن رئيس الحكومة الجديد الشاب مقيد اليدين، كونه ملزماً بتنفيذ سياسة الرئيس.
التكهنات والتحليلات قد تكون مفيدة، لكنها تظل محكومة بوقتها وبظروفها، وأهواء مَن تكهنوا بها سياسياً. الثبات ليس من عادة الظروف ولا الزمن، بل التغير. وبالتالي، يجب ألا نحمّل تلك التكهنات ما لا تحتمل. وهذا لا ينفي حقيقة أن بعضها قد يصدف ويكون مُصيباً. ومن ضمنها، التكهن الذي يشير إلى احتمال أن رئيس الحكومة الجديد أتال، سيكون المرشح القادم للرئاسة عن حزب الرئيس ماكرون.
المصدر / صحيفة الشرق الأوسط الصادرة بتاريخ 21 يناير 2024 م.
Comments are closed.