عبق نيوز| مصر/ القاهرة| كتب الكاتب خالد البري مقالا وعنونه بـ”الاستشراق العكسي” ونشرتهخ صحيفة الشرق الأوسط في عددها الصادر بتاريخ يوم الاثنين – 26 شهر ربيع الأول 1443 هـ – 01 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [15679] ، جاء فيه :
على كل ما قدمت دراسات المستشرقين من درر، وما فتحت عيوننا عليه من مناهج بحثية، وما كشفته أمامنا من تراث كان مطموساً، تبنى كثيرون هنا وفي الخارج أطروحات نقد رافضة كلياً للاستشراق، تنطلق من كونه يمثل نظرةَ عقليةٍ غربيةٍ إلى الشرق، ومحاولتها إخضاع ثفافته وإنتاجه الفكري والقيمي لمعاييرها. حتى صارت كلمة استشراق أو مستشرق سلبية المدلول.
اليسار الغربي تبنى هذا النقد في إطار معركته مع الرأسمالية، واليسار المحلي تبناها في إطار اصطفافه مع الدعاية السوفياتية أيام الحرب الباردة، والإسلامجية تبنوها في إطار انحيازهم للإمبريالية العثمانية بتشتيت الانتباه عنها، وإقناع المسلمين بأن الاحتلال الغربي سبب حالهم المتردي، أما الاحتلال العثماني… يا عيني عليه، يا عيني عليه!
والآن نعيش مفارقة ساخرة ومأساوية: الأطراف التي تبنت هذا النقد لكتابات الاستشراق التقليدي، هي نفسها التي صارت تشجع وتتبنى الاستشراق العكسي. أعني بالاستشراق العكسي كتابات المحليين التي تنظر إلى المنطقة، وتشخصها، بناء على نظرة غربية صرفة.
هذا الاستشراق العكسي يرضي لدى منتجيه المحليين شعوراً بالاستعلاء، والإيحاء بأنهم عجينة بشرية أخرى، غير المحيطين بهم، لا تتشارك المسؤولية عن تراجعنا وتخلفنا، ولا هي جزء منه.
ومن الصعب أن نعتبر الدافع وراء الاستشراق العكسي فكرياً. لو كان لاتسقت التصرفات، وسارت متناغمة. إنما الخليط المحير الجديد من اليسار الإسلامجي أتقن لعبة الوجوه المتعددة، وتفوق فيها على الإسلامجية الصرف الذين طالما مارسوها بسذاجة تقديم خطابين متناقضين، أحدهما بالإنجليزية والآخر بالعربية. وكان من السهل اكتشافهم، وكشفهم.
المستشرقون العكسيون فرق ضمن منظومة. يبيعون للحركة النسوية وجهاً دعائياً يرتدي حجاباً، ويبيعون لمجتمعاتهم المحلية حلم الوصول إلى العالمية بهذا المظهر، وللجاليات المسلمة حلم المحاصصة الأقلوية، نصيباً في كعكة «مكافحة الرجل الأبيض». وما بين تلك الوجوه لا نعرف هل هم مع خطاب السيولة الجندرية؟ مع الخطاب النسوي؟ أم مع خطاب الخصوصية الثقافية؟ لديهم في المنظومة وجه لكل مناسبة. والمعادلة تنتهي في الأخير إلى مقايضة انتهازية صرفة.
كعكة الأقليات تلك لها شروط ومبررات استحقاق، لا بد لمستحقيها أن يلعبوا دور الضحية المنتهكة. هنا يصعد خطاب المظلومية القاتم، المرتكز على ميلودراما تناسب الغرائبية اللازمة لبيع حكايات الشرق إلى العقلية الغربية، دراما لا تعترف بالظلال بين الأبيض والأسود. الفقر لا بد أن يكون فقراً مدقعاً، مهيناً. الحكم لا بد أن يكون ديكتاتورياً يسيل الدم من بين أنيابه. علاقة الرجل والمرأة لا بد أن تكون علاقة مجرم طاغٍ، بضحية كالحمل البريء. وهكذا تروّج سلعة روايات الضحايا، بلا بصيص من ضوء، حتى لو من كشاف صغير، لا يقدم – والعياذ بالله – أملاً، بل يضيء زاوية خافية. أبداً. لا بد من صورة حالكة مشينة إشانة مطلقة، تثير الشفقة أو النفور. وكلاهما صورة لا يرضاها عن نفسه إنسان سوي. من هنا يريد إنساناً سوياً!!
وهي أيضاً صورة سطحية تغفل خطايا الحالات المعروضة، وتعفيها من مراجعة النفس. كل المرضى مستحقون للعناية. لكن هذا لا ينفي أن هناك مرضى مغلوبين على أمرهم، وآخرين يجلبون المرض لأنفسهم بالتكاسل والإهمال. هناك ضحايا مظلومون، وهناك ضحايا إرهابيون. هناك فقراء مكافحون، وهناك فقراء عالة كسالى متواكلون. «الضحية» أحياناً شريك في الجريمة، انهزم في صراع أججه. هذه أيضاً غائبة عن رواية الاستشراق العكسي.
الاستشراق القديم قدَّم الشرق بصورة غرائبية، سلبية وإيجابية، لكن فيها ما يدعوك إلى التفكير. الاستشراق العكسي يقدم المنطقة بصورة غرائبية في سلبيتها، فقط. ويفرض عليها أسئلة أصعب مما يوجه إلى أي تجمع بشري. ثم يتربح من «إجاباتها الخاطئة».
فيصير من الطبيعي تاريخياً لأمة كبريطانيا وفرنسا أن تمر بمراحل تطورية طبيعية مثل تحرر التجارة وتوسع رقعة المهن في ظل الملكية، ونشوء الطبقة الوسطى، فالتوسع الرأسمالي، وتوسع التعليم، وتعدد مراكز القوى، ثم تحدي هذه المراكز للسلطة الاجتماعية القائمة مما ينتج حماية حرية التفكير. وما واكب هذا من تطور تدريجي في نظام الحكم السياسي، من المجالس العمومية، إلى تصويت أصحاب الممتلكات، إلى تصويت الرجال، فتصويت النساء. ومن حق بريطانيا وحظها أن تتمتع بأن العالم لم يتبنَّ عنها الصورة التي رسمها تشارلز ديكنز واكتفى. ولا هي صدقتها عن نفسها.
الاستشراق العكسي يطلب من أمم الشرق الأوسط صناعة تاريخ لم يحدث في التاريخ. يرسم لها إلى الجائزة طريقاً لم تُجسر فجواته، ولا سُدت فراغاته. كبواته قاتلة. ويطالبها بالمشي فيه بلا تفكير.
لا أقدم الموضوع هنا كأنه مؤامرة. التقدميون الغربيون يسيطرون حالياً على الإعلام والمنظمات غير الحكومية وعلى مؤسسات المؤتمرات. والطريق إلى آذانهم وعقولهم يمر بمسارات معينة معروفة عالمية. المستشرقون العكسيون يضبطون أنفسهم على مقاساتها، فتنقلهم إلى الواجهة. لو طلبت منك صحيفة غربية مقالاً فكتبت وجهة نظر محلية لن تسمع منها مرة أخرى. أما إن كتبت ما يطابق «التصور الغربي للشرق الأوسط»، فأهلاً بك وسهلاً.
خطورة هذا السلوك إذن ليس فقط في صعود هؤلاء الانتهازيين ممثلين عنا، ولا في تقديم رواية خاطئة تقود إلى تشخيص خاطئ ووصفة علاج خاطئة. الخطورة الأشد أن دفع مجتمع ما إلى المسير في طريق الجائزة الموعودة والكبوات القاتلة يزيد فرصة الكبوات.
الأمر لا يتوقف على الخطابات الجندرية، بل أخاطر بأن أضرب لكم مثلاً ذا شعبية كاسحة ونتيجة كارثة – الرعاية المجانية. هذه إن طرحت في مجتمع يتبنى عقلية تواكلية غيبية لن تنتج إلا أفواهاً كثيرة وإنتاجاً قليلاً، مطالبات جمة وعطاء لَمماً. ميزاناً مختلاً قادراً على أن يكبو بأي أمة. الحرية السياسية إن اقترنت بأفكار الإرهاب وصفة جاهزة لديكتاتورية اجتماعية أسوأ من الديكتاتورية السياسية التي تنتقدها. لكن الأصوات الببغائية تجعل العقلاء يخشون طرح نقد مختلف.
المصدر / صحيفة الشرق الأوسط في عددها الصادر يوم الاثنين – 26 شهر ربيع الأول 1443 هـ – 01 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [15679]
Comments are closed.