عبق نيوز| المانيا / برلين| تطوي المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل التي وصفت يوما بـ “قائدة العالم الحر” في زمن صعود القادة الشعبويين في أوروبا والولايات المتحدة، نحو 16 عاما في الحكم ، تاركة خلفها إرثا متباينا في الداخل والخارج.
دثّرت سنوات الحكم المديد ميركل (67 عاما) بعباءة “المستشارة الأبدية”، وأكسبتها شعبية كانت كفيلة بأن تتيح لها الفوز بولاية خامسة قياسية، في ما لو قررت السعي إليها. الا أن السيدة الأولى التي تشغل المستشارية، ستصبح أيضا أول رأس للحكومة الألمانية يختار التنحي طوعا عن الحكم، تاركة خلفها جيلا بكامله لم يعرف سواها في هذا المنصب الأبرز في برلين.
تترك ميركل الحكم بآراء متفاوتة. فالمؤيدون يرون أنها وفرت قيادة ثابتة وبراغماتية، وكانت شخصية معتدلة وموحِّدة في مواجهة أزمات عالمية لا تعد ولا تحصى. الا أن المنتقدين يعتبرون أنها اعتمدت أسلوب قيادة قائما على التأقلم والسعي الى كسب القاعدة الأكبر من التوافق، وافتقدت الرؤية الجريئة لتحضير أوروبا واقتصادها الأكبر ألمانيا للعقود المقبلة.
الأكيد أن ميركل تترك خلفها تركيبة مشرذمة. فالهالة التي فرضتها على الحياة السياسية الألمانية، تلقي بظلالها على وريثها في الاتحاد المسيحي الديموقراطي المسيحي أرمين لاشيت الذي عانى ليطبع حملته الانتخابية ببصمته. في المقابل، يبدو أن خصمها من الاشتراكيين الديموقراطيين، وزير المال أولاف شولتز، نجح في تقديم نفسه كالمرشح الأبرز لضمان استمرارية فعلية في حكم ألمانيا.
وفي انتظار ان تبقى في منصبها الى حين تسليمه للفائز في الانتخابات، ستتمكن ميركل من معادلة أو تجاوز المدة القياسية التي سجلها المستشار السابق هلموت كول إذ أمضى أطول مدة في المستشارية (1982-1998) في حقبة ما بعد الحرب.
– “عين الصواب” –
مثّلت ميركل بالنسبة الى الكثيرين في الأعوام الماضية، مستشارة قادرة على الوقوف في وجه قادة من الذكور الصاخبين على الساحة العالمية، مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
وأظهر استطلاع نشره مركز “بيو” للأبحاث هذا الأسبوع، أن الغالبية في العديد من الدول ذات الأنظمة الديموقراطية حول العالم، تثق ” بأن ميركل ستقوم بعين الصواب في الشؤون الدولية”.
لكن الأيام الأخيرة لها في الحكم شهدت تحديات إضافية، من أبرزها استعادة حركة طالبان السيطرة على أفغانستان، والذي تتحمل ألمانيا بعضا من مسؤوليته لكونها كانت ضمن القوات الأجنبية المنسحبة من البلد الآسيوي.
في الداخل، أمسكت ميركل بمفاتيح كسب التأييد. فالمتخصصة في الكيمياء الكمّيّة والتي نشأت في ألمانيا الشرقية خلف الستار الحديدي إبان الحرب الباردة، عرفت كيف تضمن الاستقرار من خلال ملاقاة قاعدة انتخابية دائما ما تنشد التغيير.
وعكست التغيرات الكبرى في سياستها، ما تتطلع إليه شرائح واسعة من الناخبين الألمان، ومنها على سبيل المثال التخلي تدريجا عن محطات انتاج الطاقة النووية في أعقاب كارثة فوكوشيما اليابانية في 2011. وتمكنت من جذب تحالف واسع من النساء وناخبي المدن، لتأييد الاتحاد الديموقراطي المسيحي الذي تمثله، والمعروف بتوجهاته السياسية المحافظة.
– “ملكة التقشف” –
قبل جائحة كوفيد-19، كان قرار ميركل في العام 2015 فتح الحدود أمام أكثر من مليون لاجئ معظمهم سوريون لدخول ألمانيا، خطوة جريئة اعتبرت محورية في الإرث الذي ستتركه بعد خروجها من السلطة.
وعلى رغم أن الخطوة لقيت تأييد العديد من الألمان، الا أنها ساهمت أيضا في تعزيز شعبية حزب “البديل من أجل ألمانيا” المناهض للاجئين، ما مهّد لتكوّن تكتل يميني متطرف داخل البرلمان للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية.
وفي الفترة عينها، لقيت ميركل انتقادات قادة آخرين، مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الذي اتهمها بـ “الامبريالية الأخلاقية”.
وبعد ستة أعوام على تلك الأزمة، أبدت ميركل أسفها هذا الشهر لأن الاتحاد الأوروبي لا يزال بعيدا عن اعتماد سياسة لجوء موحدة.
وفي المجال البيئي، تواجه السيدة التي أطلق عليها سابقا لقب “مستشارة المناخ”، انتقادات من ناشطين شبان يرون أنها فشلت في مواجهة الأزمة المناخية، خصوصا وان ألمانيا لم تتمكن بعد من احترام تعهداتها في خفض الانبعاثات.
وأصبحت ميركل بمثابة حجر الرحى الأوروبي خلال الأزمة المالية في منطقة اليورو، حيث دفعت برلين في اتجاه خفض الانفاق في مقابل خطط انقاذ مالي للدول الغارقة في ديونها.
وأثارت توجهات ميركل يومها تظاهرات مناهضة وصفها خلالها المحتجون بـ “ملكة التقشف” في أوروبا، وحملوا رسوما ساخرة تصوّرها وهي ترتدي زيّا نازيا، بينما رأى مناصروها أنها تمكنت من الحفاظ على الوحدة المالية للقارة.
وخلال أزمة فيروس كورونا، وعلى رغم الإقرار ببعض الخطوات الناقصة مثل البطء في توفير اللقاحات، بقيت معدلات الوفيات في ألمانيا أقل من الدول الأوروبية الأخرى نسبة الى عدد السكان.
– “موتي” –
في 2005، أصبحت ميركل أصغر مستشارة ألمانية وأول امرأة تتولى هذا المنصب، وهي تغادره كأكبر قادة الاتحاد الأوروبي ودول مجموعة السبع سنّاً.
ولدت أنغيلا دوروثيا كاسنر في 17 تموز/يوليو 1954 في مدينة هامبورغ الساحلية في شمال ألمانيا، لقس لوثري وأم معلّمة، قبل الانتقال الى الجزء الشرقي من البلاد.
برزت في تعلّم الرياضيات واللغة الروسية التي ساعدتها في التواصل مع قادة عالميين ابرزهم بوتين، الضابط السابق في جهاز الاستخبارات الروسية “كاي جي بي” في مدينة دريسدن الألمانية لدى سقوط جدار برلين عام 1989.
احتفظت باسم عائلة زوجها الأول (ميركل) الذي اقترنت به عام 1977 في زواج انتهى بالطلاق بعد خمسة أعوام.
بعد سقوط جدار برلين، انضمت ميركل التي كانت تعمل في مختبر كيميائي، الى مجموعة سياسية مؤيدة للديموقراطية دمجت لاحقا بتشكيل المسيحيين الديموقراطيين بزعامة كول الذي كان يكنّيها “فتاتي”.
كسرت المرأة البروتستانتية بانتخابها لزعامة الحزب، هيمنة الرجال الكاثوليك على هذا المنصب. لاقى صعود نجمها في أروقة الحزب، امتعاض منافسيها الذين باتوا يطلقون عليها بالخفاء اسم “موتي” (“الأم”). لكن الكلمة الأخيرة بقيت لها، مع تمكنها من اقصاء منافسيها بحنكة، وأحيانا من دون رحمة.
وعلى رغم طرح اسمها لمناصب محتملة في الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، أكدت ميركل أن خروجها من المستشارية هو أيضا ابتعاد عن السياسة بالكامل.
وخلال رحلتها الأخيرة الى واشنطن في يونيو، سئلت ميركل عما تتطلع إليه مستقبلا، فأجابت “عدم الاضطرار لأخذ قرارات”.
المصدر / فرانس برس العربية .
Comments are closed.