#عبق_نيوز| تونس | لم تكف الصورة يوما ما عن تأويل معناها سواء أكانت صامتة أو ناطقة، فهي كانت دائما تنطوي على هذا القدر من التعبير عن موضوعها. إلا أن ما نشاهده الآن مع الثورة الرقمية أعطى معطيات الصورة، فدلالات الصورة هنا لا ترتهن إلى قياساتها التقنية وأبعادها الضوئية فحسب بل تنبع أساسا من المشاهد الدرامية التي تعبر عن حدث ما أو تلك التي تستند إلى عناصر ومؤثرات من تدبير المصور أو المخرج هذا على مستوى الصور الرقمية المتحركة وهناك صور أخرى يمكننا تقسيمها إلى عدة أقسام منها الصورة الرقمية وتعرف أيضا بالصورة المقطعية (الصور السينمائية والصور التلفزيونية وصور الفيديو) وهناك الصور الثابتة (الصور الجمالية) كاللوحات والصور الفنية وغيرها وهناك الصور الوثائقية والصور النفعية والصور الإشهارية والصور الإخبارية هذا إضافة إلى الصور ثلاثية الأبعاد وكل هذه الصور تختلف عن بعضها البعض في كيفية بث المعنى وإيصاله إلى المشاهد. فثمة وسائل وطرق عديدة لفهم الصورة وثمة طاقة رهيبة لا نستفيد منها كما يجب وهي الطاقة البصرية ونحن مسؤولون عن ذلك هذا بالإضافة إلى تواجد أساليب مختلفة وأكثر نفعا والصورة في قلب كل هذا هي المحور والمركز. من هنا يمكننا الرجوع والتعمق وفهم معاني الصورة الفنية فالصورة مثلا عن الفنان تنقسم إلى وجهتين أساسيتين وهي الصورة التي تبصرها العين والثانية التي تراها الروح بالتحديد التي ينقلها الفنان من خلال العين ويدمجها في الصورة الخيالية لكي يجسدها على مساحة أو على ورقة لتصبح ذات معنى أو تحمل قضية ما.
أما الصورة الذهنية فهي جزء لا يتجزأ من خيال الشاعر أو الرسام أي أن الخيال له القدرة على تكوين صورة ذهنية لأشياء أو أحداث قد غابت عن متناول الحس إذ عندما تتعدد المعاني للصورة الواحدة يأتي دور الروح المترجمة للشكل من خلال أحاسيسها وفي المقابل تتطور اللغة أكثر بصورتها من ما يبتذله من جهد في اختصار معاني كلماتها إذن فالصورة الأدبية أو الشعرية تصوغ مفرداتها في حركة محورية تحاكي عمل الخيال.
إن النظر إلى عملية التخيل الشعري نفسها على أنها عملية تقديم صور بصرية أساسا ويترتب عن ذلك خلط بين الصورة واللوحة من هنا يمكننا التعمق أكثر في معاني الصورة وذلك من خلال تحديد أصل الصورة أو كيفية وجودها فإن كل شيء مصنوع له صورة أي توجد علاقة بين المادة والشكل. فلقد ذهب أرسطو إلى أن كل شيء مصنوع لابد له من صورة أي شكل ومادة يتركب منها فلا الصورة تستغني في وجودها عن المادة أو الشكل ولا المادة يمكن أن توجد بالفعل وإن كان من الممكن أن توجد بالقوة دون صورة.
إن الصورة الفنية هي طريقة خاصة من طرق التعبير فتنحصر أهميتها فيما تحدثه من معنى من المعاني ولكن تبقى الصورة لا يمكنها تغيير طبيعة المعنى بل تغيره عن طريق عرضه وكيفية تقديمه.
يمكننا القول بأن تبلور معنى الصورة قد بدأ في مجال الدين. فكانت الصور في المسيحية داخل الكنائس وداخل المعابد تأخذ معنى الآلهة تتجه إلى معنى القدسية مثل صورة الآلهة المصرية في الفترة الفرعونية الدالة على عظمة الآلهة وكبرها فتعتبر مقدسة بالنسبة للفراعنة كما أخذت الصورة دور آخر في المسيحية أصبحت تبرز معنى الرمزية مثال صورة الصليب أما عند المسلمون فقد تبلور بشكل خاص من خلال الجدل الذي أثارته بعض الآيات التي تشبه العناصر الحسية بأخرى معنوية مثال توقف البعض إزاء صورة شجرة الزقوم المذكورة في سورة “الصافات” (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنها رؤوس شياطين) لقد فسروا تشبيه طلعها برؤوس الشياطين على أنه لون من ألوان التعبير يراد به إيقاع الخوف والرعب في نفوس الكافرين.
أما الصور التشكيلية أو صور اللوحات تذهب إلى معنى تشكيلي يمكن فهمه بقراءات مختلفة حسب اختلاف المتقبل صور المجموعة النحتية العريفة الموسومة “لا ووكون” (في القرن الأول قبل ميلاد المسيح) المعروضة في الفاتكان التي تروي فصلا من تاريخ لاووكاون الذي قضى مختنقا مع أولاده بواسطة أفعيين وعلى قولة ليسنغ “تصوروا لاووكون فاغر الفم وأحكموا عليه. دعوه يصرخ وسترون حاصل عملكم” أما المعنى الذي يقصده ليسنغ (إن فما فاغرا، في النحت، فجوة ليس إلا وتحدث أثرا منفرا ومقززا للنفس)
كما هو الحال بالنسبة للصورة الرقمية التي ينتقل فيها المعنى فهي ترتكز على سرعة وصولها إلى المتقبل وسرعة انتشارها فهي تأخذ المتقبل إلى معرفة ما تحمله من معنى مثال الصور السينمائية والصور التلفزية والصور الوثائقية والصور الإخبارية والصور الإشهارية كل منها تبث معنى مختلف عن الآخر مثال الصورة الإخبارية تبث معنى إخباري لحدث متزامن في الواقع ومنها الصورة السينمائية التي تبث معنى إيهامي لتجسيد الواقع أو بث قضايا بطريقة غير مباشرة عن طريق التقنية مثال المونتاج والتصوير، التمثيل…
من هنا يمكننا الانتقال في هذه القضية إلى حد الصورة فيقصد بها كل تجسيم أو تمثيل لموضوع أو شيء ما عن الصورة في أصلها اللاتيني مشتقة من كلمة: طريق التشابه ألمنظوري أي أن الأصل الاشتقاقي يحيل على فكرة النسخ والمشابهة والتمثيل والصورة تكون إما ثنائية الأبعاد كالرسم والتصوير أو ثلاثية الأبعاد كالنقوش البارزة والناتئة والتمثيل فتترادف الصورة في الأصول الإغريقية كلمة أيقونة والتي يراد بها المشابهة والمماثلة. أما حدود الصورة المعاصرة (الصورة الرقمية) فهي تفوق الواقع وتصل إلى حدّ فشلها في إيصال المعنى الصحيح لأنه لا يتطابق مع الحقيقة فتبق الصورة في حدود الخيال فقط مثال كصور الأفلام الخرافية أو أفلام الرعب.
أو تبقى في حدود نقد الواقع المعاصر (أفلام الخيال العلمي) على أن عالم الصور الذي يتقاطع مع الواقع ينزع مع تكرار الاستعراض عبر مختلف تقنيات الميديا إلى أن يكون بديلا افتراضيا لذلك الواقع فقد أصبحت الصورة في كمها الهائل مع سرعة انتشارها اتجهت إلى تقمص قناع لذلك الواقع المحجوب وبحيث يتحول ذلك القناع إلى قناعة مشهدية ترتهن المخيلة بطبيعة الاقتران الشرطي في لا وعي المشاهد.
فوصلت الصورة إلى درجة الخداع فخداع الصورة قائم على ان موضوعها الذي تعبر عنه مشهديا في شاشة بحجم محدود يبدو كما أنه حجم يختزن العالم الذي تملأه الصور في تلك الشاشة.
إذ يساهم هذا الاختزال في حجب الأنواع الأخرى من الصور فكأن الصورة التلفزية أو الإشهارية أو السينمائية تصل إلى حدود اعتقال فعل المشاهدة والقراءة وتظلله وتعطله فتوهم المتقبل بأنها تمنحه ذاتها بسهولة. فهي تجبر المشاهد على الاستسلام لهذه الصور.
يمكننا القول بأن الصورة تراهن على تقديم المعنى كما تفضي على المتلقي نوع من الانتباه واليقظة كما تراهن أيضا على إيصال المتعة الذهنية والمتعة البصرية سواء من خلال الصور التشكيلية أو الشعرية أو غيرها كما تهدف إلى تمرير الخطاب اللغوي والخطاب البصري كما تراهن على أهمية القراءة الصورية. فتبرز قدرة الصورة على انتزاع التأثير نابعة من انفكاكها عن كل ما هو خارجها وإعادتها لتجديد اللحظة الزمنية وترسيخها في التاريخ كما أن مواضع الخطاب الجسدي والعقلي والوجداني للصورة تتعرض لما يشبه القطيعة مع ما تختزنه تلك المواضع حيث تتعرض لتأثير الصور بفعل ضغط اللحظة التصويرية.
ابراهيم بن نبهان باحث في الفنون التشكيلية تونس.
المصدر / نقلا عن صحيفة المثف العربي الالكترونية- العدد 2598 المصادف 2013-10-16.
Comments are closed.