#خاص_عبق_نيوز | ليبيا / طرابلس / مراسلون / فيحاء العاقب| في ازقة طرابلس تلك المدينة الساحرة، التي يغازلها البحر فتتغنج باستحياء ولدت لعبة البوقالة، ذلك البوح النسائي اللذيذ، والذي يداعب قلوب حسناوتها فيزيدهن املا وتفاؤلا بالحياة القادمة، بل ويشرع براحا للحلم بان يطل من نافذته بثقة بعيدا عن التوجّس والتخوّف، من خجل يجبرهن على السكوت.
–في الموروث–
البوقالة تعتبر من الموروث الثقافي الطرابلسي الشعبي، وقد ارتبطت ارتباطا مباشرا بالنساء، وتٌقال على هيئة شعر منثور قد يكون مقفى تارة او غير موزون تارة اخرى.
وكسرا لروتين الحياة اوجدت هذه اللعبة الإستبشارية البريئة، المعتمدة على الحظ والنصيب، حيث عرف الجيل القديم متطلبات الفتيات، فمن خلالها يمكن اخراج المرأة من السطوة الذكورية التي تكمم الافواه، وتمنع البوح بالمشاعر، في ظل مجتمع محافظ مولع بالعادات والتقاليد، من الصعب فيه ان تجد النسوة متنفسا للحديث عن ما يشغل بالهن من التفكير في النصيب او الحب العفيف الصادق بشكل واضح، اذ يمنعهن حيائهن، فلا يجاهرن ولا يتحدثن عن ذلك في وضح النهار.
–المحتوى —
في جعبة البوقالة مواضيع تدور في ذات الدائرة، حيث تنحصر ابياتها الشعرية في الفخر والمديح والرجاء والدعاء والفأل الطيب، كما أن فيها الكثير من اللوعة والحزن على فراق الأحبة، والأمل في أن يجمع الله الشمل من جديد، وتزخر ايضا بالدعوات الخيّرة، وهذا وفقا لما جاء على لسان الفنان الليبي الهادي حقيق.
–الاصل–
البوقالة في حد ذاتها والتي تم تسمية اللعبة عليها، هي من المقتنيات الفخارية وتحديدا الآنية التي يُشرب منها، وهي اشبه بالجرة الا انها طويلة العنق ضيّقة المشرب.
اللعبة عرفت واشتهرت في ليبيا والجزائر، مع اختلاف طفيف في طريقة اللعب، والمصطلحات المستخدمة في الابيات الشعرية، وربما كان للثقافة الاندلسية يدا في ذلك التشابه، او القرب الجغرافي لكلا الدولتين والذي أوجد بدوره نوعا من التقارب الثقافي، والإتفاق على أن تكون اللعبة منبعا للتفاؤل.
اللافت للنظر ان البعض يشكك في البوقالة من باب ان بها شيء من التكهن بالمستقبل، ويدخلها في دائرة الشرك بالله، إلا انها بعيدة كل البعد عن ذلك اذ انها مبنية على الامنيات التي تتمناها الفتاة وتدعو الله تحقيقها، او كإشراع نافذة الامل بأن القادم يحمل كل جميل.
–تفاصيل اللعبة–
وصفا لتفاصيل اللعبة التي تكون في جلسات مسائية في بهو بيوت المدينة القديمة، حيث لا يحتاج القمر لأن يتلصص على احاديث النواعم، فما من سقف يمنع ضوءه من مغازلة وجوههن البريئة، وعيونهن الناعسات الساكنات، وربما الهتون اللاتي ينتظرن حظهن ايضا، وشجيرات الياسمين الباعثة بعطرها ليكون شاهدا على حلاوة الجلسة المطعمة بامتزاج الشاي والفول السوداني “الشاهي بالكاكاوية”.
ويقول الباحث في الموروث الطرابلسي الاستاذ “صلاح حودانة” ان اللعبة تُلعب بأكثر من طريقة حيث: تتحلق الفتيات حول سيدة تكبرهن سناً وغالبا ما تكون الجدة التي تردد:
بسم الله بديت ..وعالنبي صليت .. يا غايث كل مغيث .. غيثنا واستر عيوبنا.
تقوم الصبايا بوضع خواتمهن في هذا الإناء بعد أن يتم ملؤه بقليل من الماء، ليتم اختيار الفتاة التي ستُخصّ ببوقالة”بيت الشعر” ، عند إخراج خاتمها عشوائيا من هذه “البوقاله” الفخارية ، من باب الزيادة في التشويق والإثارة للعبة.
ويقول ايضا ان هناك طريقة اخرى للعبة حيث السيدة الكبيرة في العمر تأخذ غطاء الرأس والمعروف في اللهجة الليبية باسم التستمّال” أو “الشاربه”، وتعقد عقدة في طرفه، وتوشوش عليها، اسم واحدة من الحاضرات “الصبايا”، اللواتي يردن معرفة الفأل لهن، ثم تتطوع احدي النساء الحاضرات الاخريات بإلقاء أي بيت شعر بشكل عفوي تحفظه من سطور البوقاله يخطر على بالها.
بعد الانتهاء من قول ذلك البيت تقوم السيدة التي بيدها “التستمال” والتي عقدت العقدة، بالإفصاح عن اسم صاحبة الفأل التي ذُكر من أجلها ذلك السطر من البوقاله، وبذلك تعرف حظها او فألها!
وفي طريقة اخرى للعبه حيث تنزع السيدة الكبيرة في العمر الغطاء من علي رأسها، وتمده لأول فتاة علي يمينها، فتقوم الاخيرة بعقده عقدة في طرفه، وتعيده مرة اخرى للسيدة التي تردد البوقالة التي تحفظها مثل:
“يا سيدي سيدي وين نلقاك..نلقاك في نهار سعيد .. نبي محبّتك تُنقص .. كل يوم تزيد
نراجي فيك ..مراجاة هلال العيد.
ثم تفتح السيدة العقدة، وتتثبت عيون الحاضرات على الفتاة المقصودة، ويبدأ الهمز واللمز وترتفع القهقهات، في محاولة منهن لمعرفة ما تخبئ في قلبها، والشخص المقصود ببيت الشعر.. وتستمر اللعبة.
وسطور البوقاله كثيرة بعضها مفرح وبعضها غير سار! من امثلتها:
- “اسمك “حمد” .. ما تقول لحد .. ياصنة الخوابي ياظريف القد .. انت اللي تـنعشق وانت اللي تـنحب .. وانت الدواء للقلب.
- “خطم فمّ حوشنا يبيع في الكسبر.. قال يا ناس قولوا لبنتكم تصبر.. بنت الحسبّ والنسبّ خيار ما تشكر”
- “ياسعد من قال ياأمي .. ومن ورا البيت جاوباته ..ثاريتك يالأم جنة وياتعس من فارقاته”
وغير ذلك الكثير مما ورد عن ابيات شعر البوقالة.
–الخاتمة–
لم تعد اليوم الفتيات تمارسن لعبة البوقالة ، ولم تعد اصواتهن في ازقة المدينة القديمة تسمع، ولا حتى رائحة الشاي تفوح، لتخبر القادم من بعيد ان هناك جلسة ناعمة في احدى البيوت، فقد خلعت الحياة ثوبها القديم المطرز بحكمة الجدّات وحنكتهن، وارتدت ثوب الحداثة المقترن بالجفاء، فلا سمر ولا جلسات يتم فيها تبادل الاحاديث بكل بساطة وود ومحبة، ولا اطلالة للقمر ومحاول استراق السمع، فقد بُنيت الاسقف وارتفعت الجدران، وسكت الرباب.
بحث و كتابة / الصحفية و الاعلامية – فيحاء العاقب/ طرابلس -ليبيا .
Comments are closed.